أي شيء أفضل: العلم أم الجهاد؟:طلب العلم الشرعي والعمل به والدعوة إليه: فقد دلت نصوص الكتاب والسنة على شرف العلم والعلماء، يقول الله تعالى: }هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ{ [الزمر: 39]. وهنا }هَلْ{ بمعنى (لا)، أي: لا يستوي.
وفي الحديث: «وإن الملائكة لتضع أجنحتها لطالب العلم رضا بما يصنع»، وفي الحديث: «وفضل العالم على العابد كفضل القمر على سائر الكواكب»؛ لأن العبادة نفعها قاصر، والعلم نفعه متعدًّ. وسُئِل الإمام أحمد عن أي شيء أفضل: العلم أم الجهاد؟فقال: لا شيء يعدل العلم، فالعلم جهاد والعلم عبادة؛ ولذلك جعل الله العلماء ورثة الأنبياء، ووالله لو ركع الراكعون وسجد الساجدون وسبَّح المسبحون فلن يبلغوا فضل العلماء العاملين والهداة المخلصين الذين يقولون بالحق وبه يعدلون، فلا شك أن عظمت منزلته عند الله، ولا يزال العبد يطلب العلم حتى يرفعه الله الدرجات العُلى في الجنة؛ لأن الله يرفع درجات أهل العلم والإيمان في جنته }يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ{ [المجادلة: 11]، فوالله ما أمرت بأمر مما بينه الله إلا كان لك مثل أجورهم.
حتى إذا طلب العلم حمل همّ العمل به، ثم حمل همّ البلاغ إذ هي أعظم مراتب الدين، ومن أعظم مقومات الثبات على الهداية؛ لأنه مقام الأنبياء }وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ{ [فصلت: 33]. ولذلك ضرب العلماء لحب الخير والإيمان مثل قلب كلما ازداد إيمانًا ازداد حبًّا للخير؛ لأن القلب مثل إناء، طالما هو ممتلئ يفيض على من حوله، لكن إذا لم يمتلئ لا يمكن أن يفيض، لأنه أول ما يمتلئ الإناء يبدأ يفيض، وعلى قدر اندفاع الماء على من حوله يمتد لأماكن كثيرة وبعيدة، وعليه فطالما العبد لا يحرص على نقل الهداية للغير فلو حلف وأكثر الحلف فإن إيمانه ما كمل، فيوجد أناسٌ ملتزمون لهم عشرات السنين لم يطلبوا العلم، وبدؤوا يعانون من الفتور، ويتحسرون على حلاوة الإيمان التي وجدوها في بداية التزامهم، فنقول لهم: اطلبوا العلم وادعوا إلى الله، فإنك إذا أخذت بيد أحد فإنك سوف تجد الإيمان بقلبك.
لكن لماذا؟ الجواب: لأنك تطور نفسك وأنت ما تشعر، فبمجرد أن تهتم بالدعوة ولو بالشريط، أولا تقرأ أو تسمع حتى تدعو ثم تخاف من المعاصي، فيحرمك الله فتتنزه عن الحرام، ثم تجد نفسك قبل أي موعظة تلهج بالدعاء، وتحرص على قيام الليل، ثم تبحث عن العلم تبلغه للناس، وأثناء بحثك تطلع على علم كثير، الأمر الذي يجعله يزيد من إيمانك، ولم يدع الله نبيه بالزيادة من شيء إلا العلم، فقال تعالى: }وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا{ [طه: 114].
قال شيخنا الطحان حفظه الله ورعاه: ومن أجل أن يكتمل علمك تحرص على آداب طلب العلم، وهي عشرة كاملة، تعمل بستة، وتحذر من أربعة، وهذا لمن أراد أن يتأدب بآداب العلم ويتأسى بصفات أهله، وهذه الآداب أحسن من كتب التربية التي جمعت عن كتب المناحيس أفلاطون ومن لف لفيفه من علماء الهوس والنفس:
أولاً: حسن السكوت: فلا يكثر العبث في مجلس العلم، ولا يعصب ذراعيه، ولا يقرع سنه، ولا يستند إلى حائط، ولا يذكر ما فيه دناءة.
ثانيًا: حسن الاستماع.
ثالثًا: حسن السؤال والاستفسار: لأن العلم خزائن ومفتاحه السؤال، فلا تسأل سؤال اعتراض، ولا تحاول إحراج المعلم ولا إظهار ما عندك، فإذا سألت تقول: أشكل علي كذا، ولا تقل: قال فلان كذا وأنت تقول كذا، فهذا سوء أدب.
رابعًا: حسن الحفظ وتحفظ قليلاً؛ لأن علمًا لا يرحل معك لا ينفعك.
خامسًا: حسن العمل، فليست العبرة بسعة العلم، وإنما العبرة أن ينفعك علمك، فقد تعطى سعة العلم مع قلة العمل، ولكن لا فخر في العلم، فقد تعوذ رسول الله صلى الله عليه وسلم «من علم لا ينفع»، وطلب من الله أن يرزقه علمًا نافعًا.
سادسًا: حسن التعليم: فقد يكون عندك علم، ولكن قد لا يكون عند أسلوب في إيصال العلم للناس، فتحرم خيرًا كثيرًا.
ويحذر من أربعة:
أولاً: ضياع الوقت: فاحرص على وقتك، لأن إضاعة الوقت أشد من الموت، فالموت يقطعك عن الدنيا والوقت يقطعك عن العمل الصالح، فلا تضيع وقتك إلا في علم أو عمل أو دعوة.
ثانيًا: ترك الجدال والقيل والقال والملاحاة: فإنها لا تأتي بخير، جاء رجل في خضم قيل وقال: فسأله بعض الصالحين: كيف صلاتك بالأمس؟ فقال: والله ما خشعت؛ اترك الجدال فإنه يمحق البركة ويقسي القلب، وكم من أناس خذلوا لما طرحوا العلم عند من ليس بأهل له، فقست قلوبهم بالمناقشات مع الجاهلين، فانثر علمك عند من يعرف قدره.
ثالثًا: ترك الوقوع في السلف: فلا خير في هذه الأمة إذا لعن آخرها أولها، يقول الإمام ابن قدامة عن أحد العلماء: وتفكّرت في سبب محق بركة علمه بسبب حبه تخطئة الناس واتباع عيوبهم، قال الإمام مالك: أعرف أناسًا سكتوا عن عيوب الناس، فسكت الناس عن عيوبهم، وأعرف أقوامًا لا عيوب عندهم تكلموا في عيوب الناس فأحدث الناس لهم عيوبًا.
رابعًا: الحذر من مخالطة السلاطين والمترفين: فإن كان فيهم خير اقتربوا منك وقمت بما يجب عليك نحوهم، ومن خالطهم وحضهم بالنصح والصدق ولم يوافقهم على ظلمهم، فلا بأس. انتهى.
فإذا حافظ العبد على هذه الآداب وتلقى العلم بالكيفية الشرعية فعلمه نافعٌ. ويبقى عليه مراعاة هذه الوصايا الثمان.
الأولى: تقوى الله:
لو كان العلم دون التقى شرفًا
لكان أشرف خلق الله إبليس
الثانية: الحرص على ضبط العلم وإتقانه: فما ضر كثيرًا من أهل العلم إلا الشتات والانشغال بالمطولات.
الثالثة: الإخلاص: لأن الرياء أكبر الآفات.
الرابعة: استشعار المسؤولية نحو العلم ونشره والعمل به.
الخامسة: ترك التعصب لبعض المشايخ: فبعضهم يتعصب لشيخه، ففيه يوالي ويعادي، ويستهجن العلماء الآخرين.
السادسة: معرفة قدر العلم: وأفضله علم الشرع لأنك ترث الأنبياء.
قدس العلم واعرف حرمته
لو يعلم المرء قدر العلم لم ينم
السابعة: الحذر من العوائق والمشاغل: فما من عمل صالح إلا جعل الله دونه ابتلاءات وعوائق، وكم من شخص تأخر عن مجالس العلم مرة بعد مرة ويتكاسل حتى حرمه الله!!
الثامنة: احرص على أن تشوب علمك بالعبادة، فكيف يكون الشخص هاديًا وهو ساه لاه.