مقدمة
على الرغم من انجاز الباحثين والكتاب العديد من البحوث المقالات والمؤلفات عن بيت الحكمة البغدادي الشهير الا ان الموضوع مازال بكراً يكتنفه الغموض في عدد من جوانبه، فلا زلنا إلى الآن غير متأكدين مَن الذي أسسه، الخليفة الرشيد أم المأمون أم المنصور، وما زلنا نجهل مكانه الحقيقي في بغداد هل هو ضمن قصور الخلافة العباسية أم له كيان مستقل، ومازلنا نجهل عدداً كبيراً من رجاله وعلمائه ولا نعرف التفاصيل الصحيحة عن العمل داخل هذا البيت المثير.
لكن الذي نعرفه انه اشهر اسم في تاريخ المؤسسات العلمية في الحضارة الإسلامية بل والعالمية، فقد تقارن معه ظهور العلوم الإسلامية وترجمات أشهر الكتب الأجنبية العالمية ككتاب المجسطي لبطليموس وكتاب الأصول لاقليدس وأخرى غيرها لا مجال لذكرها في هذا البحث والخلاصة يمكن القول ان بيت الحكمة في بغداد يعدّ اكبر المؤسسات العلمية الثقافية في الحضارة الإسلامية بل وفي الحضارة العالمية.
تسمية وموصفات بيت الحكمة
من يقلب التاريخ والمصادر القديمة يجد لبيت الحكمة البغدادي اكثر من اسم فقد ورد باسم (بيت الحكمة) وهو الاسم الاشهر له، وورد باسم (دار الحكمة) و(خزانة الحكمة) وكلها تدل على نفس المؤسسة، وأكثر مَنْ تحدث عن هذا البيت ابن النديم في فهرسته(1).
وهذه التسميات تؤكد تلك المؤسسة والمكتبة الكبيرة العامة أو شبه العامة حسب ما توصل إليه بعض الباحثين(2). وقد وصفها بعض الباحثين أنها من اعظم خزائن الكتب في الإسلام على اختلاف عصوره ودوله(3).
وقد ذكر ابن النديم بيت الحكمة مقترناً بالرشيد تارة وبالمأمون تارة أخرى، فيذكر أن أبا سهل الفضل بن نوبخت «كان في خزانة الحكمة لهارون الرشيد»(4) وفي مكان آخر يذكر ابن النديم: «كان علان الشعوبي ينسخ في بيت الحكمة للرشيد والمأمون»(5)، ومن خلال الأدلة الكثيرة التي اوردناها في كتابنا: «بيت الحكمة في بغداد مؤسسة علمية حقيقية أم رمزية» تبيّن لنا أن بيت الحكمة أسس في زمن الخليفة العباسي عبد الله المأمون المتوفى سنة 218 هجرية(6).
أما مواصفات بيت الحكمة، فلم يذكر لنا التاريخ مواصفات واضحة، وانما وردت اشارات قليلة أدت ببعض الباحثين إلى استنتاجات بعضها بعيد عن المعلومات القليلة الواردة من التاريخ. فقد ذكر لنا الدكتور عبد الرحمن مرحبا مواصفات محدّدة وفيها كثر من التفاصيل لكن دون أن يذكر لنا المصدر أو المصادر التي استقى منها معلوماته. يقول: «إنه جهاز متكامل قائم بذاته من العمل الدائب والنشاط المتواصل. فهو يتألف من عدة غرف تمتد بينها اروقة طويلة كان العمل بها منسقاً تنسيقاً جميلاً منتظماً. وتنقسم هذه الغرف أقساماً عديدة تبعاً للعاملين فيها. فهناك غرف للمترجمين وأخرى للناسخين وثالثة للمجلدين والوارقين ورابعة للخازنين والمناولين.. فضلاً عن الغرف التي تخرن فيها الكتب على رفوف بعضها فوق بعض، وهناك غرف خاصة للتدريس يقصدها الطلبة من جميع ارجاء العالم، وإلى جانبها غرف لسكناهم، بالإضافة إلى قاعات للمحاضرات والمناظرات، واخرى يستريح اليها الدارسون والمطالعون بعد الفراغ من العمل المرهق، ويستمعون فيها إلى موسيقى ومواد ترفيهية، وكانت جميع هذه الغرف فاخرة الاثاث والرياش، وقد فرشت الارض بالأبسطة وأرخيت على النوافذ والابواب الستائر الجميلة، منها ستاره جميلة تغطي المدخل لتحول دون تيارات الهواء البارد في الشتاء القارس»(7).
واذا كان بيت الحكمة مؤسسة علمية أو مكتبة فلابد أن يتمتع بمواصفات المؤسسة أو المكتبة أو بعض مواصفاتها، ولكن ليس لدينا ما يدل على ان المواصفات المذكورة هي صحيحة لانها لا تستند إلى مصادرتاريخيه كما ذكرنا.
لكن المصادر القديمة اشارت إلى بعض ما يلقي الضوء على بعض تفاصيل الدار، فقد اورد ابن الداية في قضية التحاق سند بن علي(
بالعمل عند المأمون ما يلي: «قال سند عندما قرر العباس أن يصلني بالمأمون أمر ان يقطع لي أقبية ويرتاد لي مِنطقة مذهبة، ففرغ من جميع ذلك من تلك الليلة ودخل بي على المأمون وأمرني بملازمته وأجرى لي انزالاً ورزقاً»(9).
وذكرالخطيب البغدادي: «أمر امير المؤمنين المأمون الفرّاء أن يؤلف ما يجمع به اصول النحو وما سمع من العرب، وأمر أن يُفرد في حجرة من حجر الدار ووكل به جواري وخدماً بما يحتاج إليه حتى لا يتعلق قلبه ولا تتشوف نفسه إلى شيء. حتى إنهم كانوا يؤذنونه بأوقات الصلاة، وصيّر له الورّاقين وألزملة الامناء والمنفقين، فكان يملي والوراقون يكتبون، حتى صنـّف الحدود في سنتين، وامر المأمون بكتبه في الخزائن، فبعد أن فرغ من ذلك خرج إلى الناس وابتدأ يملي كتاب المعاني»(10).
ان اعطاء الاقبيه (وهي الثياب) والمنطقة (الحزام) والارزاق ـ في النص الأول ـ لابد وأن يرتبط بالعمل في مكان ما محدد. واذا ثبت ان الفراء ألـّف في دار الحكمة المأمونية وليس في غيرها ففي النص الثاني ضوء على بعض تفاصيل بيت الحكمة. واياً كان وعلى الرغم من شحة المصادر فعملية بمستوى الحركة العلمية الكبيرة التي انجزت زمن المأمون لابد وأن تكون في مكان ما أو عدة اماكن وتحت اشراف عام.
ويبدو من خلال المصادر التي ذكرت بيت الحكمة أن هذا البيت بتفاصيله التي تشير إلى أنه مؤسسه و مكتبه كبيرة لم يكن بالضرورة بناية واحدة كبيرة تجمع عدد من القاعات والحجرات والخزانات كما يقول بعض الباحثين(11) وإنما هو مؤسسة تجمع عدة مراكز أو خزائن فرعية قد تكون متفرقة.
المكونات الأساسية لبيت الحكمة
تذكر المصادر ان كتب بيت الحكمة جاءت نتيجة ما جمع من خزائن الكتب القديمة التي جلبت من الاقطار الأخرى. فكانت هذه الكتب تجلب من آسيا الصغرى ومن الهند وبلاد فارس وجزيرة قبرص بالاضافة إلى ما كان قد جمعه السريان في كنائسهم وأديرتهم في الشام وبلاد الجزيرة. هذا غير موجودات المكتبة من مصاحف وكتب الحديث واللغة والشعر والكتب الاسلامية الأخرى.
فقد جلبت مجموعة من الكتب العلمية والفكرية والطبية من أنقرة وعمورية وسائر بلاد الروم . ومن تلك الكتب ما ذكر ابن أبي اصيبعة: «ان المأممون كان بينه وبين ملك الروم مراسلات، وقد استظهر عليه المأمون فكتب إلى ملك الروم يسأله الاذن في انفاذ ما يختار من العلوم القديمة المخزونة ببلد الروم، فاجاب إلى ذلك بعد امتناع فأخرج المأمون لذلك جماعة منهم الحجاج بن مطر وابن البطريق، وسلماً صاحب بيت الحكمة، وغيرهم ، فأخذوا مما وجدوا ما اختاروا، فلما حملوه اليه امرهم بنقله فنقل»(12).
وجـُلبت كتب أخرى من جزيرة قبرص كما ذكر ابن نباته المصري(13) واخرى من اماكن أخرى.
ولا شك ان هذه الكتب المجلوبة كانت مكتوبة باليونانية أو الفارسية أو السريانية أو الهندية أو القبطية، وقد تولاها مترجموا المأمون فترجموها ووضعوها في بيت الحكمة لتذوب في الحضارة الإسلامية. ومن الكتب الاجنبية المترجمة والكتب العربية كان العدد كبيراً. وإلى جانب تلك الكتب كانت هناك تحف نادرة وخرائط ومصورات ومن ذلك ما ذكر ابن النديم كتاباً بخط عبد المطلب بن هاشم في جلد أدم(14) ويذكر المسعودي مصورات بلدانية تصور الاقاليم السبعة تعرف بالصورة المأمونية(15) ويُعتقد أنها من مكونات بيت الحكمة.
وإذا اضفنا إلى المكونات المادية المذكورة العنصر البشري من أصحاب بيت الحكمة (المديرين) و(النسّاخ) والمجلدين وعاملين آخرين.
وإذا اضفنا أيضاً علماء بيت الحكمة، ونعرف منهم العالم محمد بن موسى الخوارزمي والفلكي يحيى بن أبي منصور، إذا جمعنا كل ذلك فسنكون أمام مؤسسة علمية ضخمة كبيرة مثيرة، امام إنجاز علمي مؤسس مبكـّر سبق عصره.