الديانات في العراق القديم (بين النهرين) (ميزوبوتاميا)
العراق هو موطن أقدم الديانات السماوية، منذ نوح عليه السلام البابلي. كان ذلك في عهد (ما قبل التاريخ) أي عهد ليس فيه تدوين، ولم تتصل روايته التاريخية لنعرف شيئاً تفصيلياً عن حوادثه. غير أن القرآن الكريم يخبرنا أن مجتمع نوح البابلي كان يدين بديانة ما، ديانة وثنية، وذكر لنا أسماء بعض الأصنام (الآلهة) التي كانوا يعبدونها، وهي: (وَد) و(سواع) و(يغوث) و(يعوق) و(نسر). والذي يتفق عليه مفسروا القرآن أن هذه الأسماء هي أسماء رجال صالحين عاشوا في أجيال سابقة حياة روحانية تركت أثرها الديني على الأجيال، ومع تقادم الزمن نسجت حولها أساطير وخرافات كثيرة تـُعلي من شأنها، وجيلاً بعد جيل تحولت في معقتدات الناس إلى آلهة، نحتوا لها أصناماً (هياكل أو تماثيل) ثم صاروا يعبدونها. ولا نعرف بعد ذلك شيئاً عنها وعن جذورها الأولى..، كما لا نعرف شيئاً عن امتداد الديانة التوحيدية بعد نوح عليه السلام.
ومن الناحية التاريخية لا نعرف على أي شيء استند المفسرون في قولهم أن أصنام قوم نوح تعود إلى رجال موحدين، لكن الديانة على أي نحو كانت قد صاحبت الإنسان منذ وجد على الأرض.
وعندما تحقق المؤرخون من أن بلاد ما بين النهرين(ميزوبوتاميا) هي أول بلاد تعرف الكتابة وتبتكر الحروف، في حدود سنة 3000 ق.م. تحققوا أيضاً من أن الكتابة اعتمدت لأول مرة في تنظيم حسابات المعبد. فالمعبد إذن ملازم لهذه الأقوام. وبعد اعتماد الكتابة انتهت مرحلة ما قبل التاريخ ودخلنا عهد التاريخ، من خلال ما تم العثور عليه من ألواح كتب عليها إنسان تلك العهود مدوناته في السياسة والاقتصاد والتاريخ والأدب والفن، وكان للمعتقدات وما يتصل بها سهم وافر في هذه الكتابات، منها عرفنا قضايا محورية في الديانة السومرية وما بعدها.
في الديانة السومرية القديمة كانت فكرة «الواحد» متأصلة.. «الواحد، باسط الأرض، رافع السماء، والمستوي في الماء على العرش».
كان «الواحد» خفياً، وهو بصفته الخفية أسماه السومريون: «آنا».. فأراد أن يُعرف وأن تكون معرفة، فهو بهذه الصفة: «عين ـ كي».. وأراد أن يكون كوناً وخلقاً فخلق الأرض والسماء، وهو بهذه الصفة: «أنليل». كانوا يعتقدون إذن بواحد في ثالوث، وثالوث في واحد.. إننا هنا أمام أقدم أصل يمكن أن ترجع عليه عقيدة التثليث المسيحية التي ظهرت بعد زمن من عهد المسيح عليه السلام.
إن أهم صفات «الواحد» المستوي على عرش السماء هي: العدالة، والعدل.. ولأجل تنفيذ عدالة السماء على الأرض ولتنظيم الأحكام الدنيوية وفق القضاء الإلهي، اعتقد السومريون بأن روح المستوي على عرش السماء لابد أن تحلّ في روح الجالس على عرش الأرض (الملك).
فكانت عقيدة «الحلول» حلول اللاهوت في الناسوت، من أقدم العقائد عند السومريين، رافقتها عقيدة «ابن الاله» الذي هو الملك الأكبر والكاهن الأكبر في آن واحد، يجمع الرئاستين الدينية والدنيوية. وبهذا ارتبطت وحدة الدين بالوحدة السياسية.
ومنذ ان قامت مملكة اُور وأورك(التي منها اخذ اسم العراق) كان يبنى بيتاً في الأرض للإله الذي في السماء: «إن سومير (سومر) منذ قامت تقيم اُور وتشيّد وتبني، قد أقامت بيتاً للاله، فلمن في السماء قد بنت على الأرض بيتاً».
في عهد (اُور نامو) سنة 2300ق.م. ـ 2180ق.م. طلع اُور نامو يردد الأمر الالهي: «لقد أمرني الإله ببناء البيت» فينطلق ويختط البيت بمساحة 15 قدماً طولاً و5 قدماً عرضاً، وينقل الحجارة بيده، يساعده ولده (د نجى). قام هذا البناء على التل المعروف بـ (تل المقيّر). وفي هذا المعبد وجدت المدونة التي تحمل هذا النص (الأمر الإلهي) الذي تلاه اُور نامو.
بني بيت الإله إذن على تل مرتفع، ضمن بناء واسع مرتفع له أروقة ومحاريب وأسوار وسلالم، يسمى «الزقورة» أي طريق السماء. فمن هناك ترصد النجوم، ومن هناك ابتدأت أولى الاعتقادات بتأثير النجوم، ومن هناك ابتدأت عبادة بعض هذه النجوم.
وفي تلك المملكة، ومع نهاية عهد اُور نامو يُبعث نبي الله إبراهيم الخليل بين سنتي 2200ق.م. و 2000ق.م. فيجد قوماً يعبدون النجوم، وحكاياته معهم معروفة كما عرضها القرآن الكريم.
إذن هناك في سومر بعث أبو الأنبياء إبراهيم الخليل،وهناك كانت قصته مع أصحاب النجوم اوالمجسمات التي ترمز للآلهة.. ومن هناك هاجر بدينه ولم يتبعه إلا امرأته وإبن اخته لوط، إلى بلاد الشام، ومصر، أما لوط فقد بعث نبياً في بلاد الشام وليس في العراق.
ـ عبادة النجوم هذه الديانة القديمة في العراق، هي اذن أقدم الأصول التي يمكن أن تعود إليها بعض عقائد الديانة الصابئية المندائية، التي تأسست في تلك الأرض نفسها أرض سومر.
وهي أقدم الأصول أيضاً لتقديس الشمس (شمش) هذه العقيدة التي انتقلت إلى الأجيال والممالك الاكدية، ثم البابلية، ثم الآشورية، وهي الباقية الآن عند الإيزيدية.
السومريون عبدوا «الاله» في القمر، فالقمر عندهم ربّ وليس هو الإله، وكذلك الأمر مع الأجرام السماوية الأخرى، (شمش) الشمس، و(أنانيتو) الزهرة إلهة الحب والجمال. وهكذا قدّسوا الفضاء الذي يحوي هذه الأرباب المقدسة، فقدّسوه ربّاً بإسم «رأمان».
كانت كل مدينة تختار لنفسها ربّاً من هذه الأرباب لتحتمي به..
ـ اعتقد السومريون بأن الإٍنسان يتمتع بأتم أنواع الحرية في القول والعمل، فهو مخيّر، غير مسيّر، حر في استخدام ملكاته العقلية وقواه الطبيعية، وأن يختار الخير أو الشر، وليس عليه إلا أن يوفق بين أعماله وبين المبادئ الأخلاقية.
ـ اعتقدوا بالبعث والنشور، في يوم يبعث فيه الإنسان حياً بعد الموت.
وذلك اعتقادهم أن الإنسان ليس هو الجسد فقط، بل هناك الروح التي أسموها (كا)، فهي المبدأ الحي، فعندما تفارق الجسد فان الجسد يضجع ضجعة قد تكون طويلة جداً، لكنه سوف يستيقظ من جديد حال عودة (كا) إليه.
ـ في العهد البابلي: حاول البابليون التوحيد بين هذه الأرباب المتعددة، فجعلت لها جميعاً رباً واحداً اسمه «مردوخ» أن «مردوق». لكن «مردوخ» ليس هو الرب بل هو الإله «إيل» الخالق.
ـ في بابل وضعت «قصة التكوين» كأول فلسفة دينية في نشأة الخلق عرفها الإنسان.
في «قصة التكوين» التي كتبها البابليون، كان «مردوخ هو الواحد المستوي على العرش، وهو الذي «خلق الكون والكائنات، وعمّر بالإنسان المدن، ولنفسه اختار من هذه المدن مدينة بابل، ومن ثم فبابل مدينة مقدّسة».
«ومن الماء الأزلي كان الإيجاد».
وتحولت الزهرة إلى «عشتار» وهي عند البابليين أم الاله مردوخ. دون أن تتزعزع مكانة مردوخ. هذا الاله هو الذي تحدث عنه حمورابي في شريعته ،بين سنتي2113-2080قبل الميلاد.
وبنى البابليون معبداً للإله هو معبد «سيبارا» وقالو إنه: « تماماً كمثل بيته الذي في السماء».
هناك نصوص أخلاقية رفيعة في هذه الديانة، كقولهم: «إن الاله تكلم قائلاً:
«ضد صحبك وجارك ليس لك أن تقول شراً».
«لا تتجسس وتبحث عن أمور مخفاة».
«كن رحيماً وأوف بالعهد إذا عاهدت».
انتقلت هذه الديانة وتشريعاتها إلى كل الأمم المجاورة، فقد استعارها الحيثيون عندما قدموا من غرب إيران إلى بابل، وكذلك الاشوريون القادمون من نينوى، ثم نقلها الآشوريون إلى أرض الكنعانيين في بلاد الشام.
لقد وحد الآشوريون الههم «آشور» بـ «مردوخ» إله بابل، فجعلوه الهاً واحداً، قالوا إن البابليين كانوا يسمونه «مردوخ» وإنما هو الاله الواحد آشور.
ـ في «قصة التكيون» الطويلة التي عثر عليها المنقبون في مكتبة آشور بانيبال، في نينوى، تفاصيل مطولة عن العقيدة البابلية في نشأة الخلق، جاء في بعض نصوصها ما خلاصته:
إن الاله بعد أن خلق الأرض والسماء نزل إلى أرض بابل وأجرى الأنهار وزرع الأرض حتى اصبحت جنة، ثم خلق من ترابها إنساناً نفخ فيه نسمة حياة فصار نفساً حية، فوضعه في هذه الجنة، ثم رأى أن هذا الإنسان وحيدا، فأوجد له على صورته انثى، فعمر بهما الأرض، ونشأت القرى والمدن.
ـ قصة الطوفان: كتب البابليون قصة الطوفان بأكثر من رواية، وجدت كلها في مكتبة أشور بانيبال الذي جمع كل ما كتبه السومريون والبابليون واحتفظ به، وأمر باستنساخه في نسخ عديدة لضمان حفظه من الضياع.
واحدة من هذه الروايات كتبها الحفيد الثالث لحمورابي في حدود 1977ق.م. ـ 1956ق.م. ومما جاء فيها: «غضب الإله على الكائنات وأراد أن يمحوها عن وجه الأرض، إلا (كسيثوروس) [نوح] الذي وجد نعمة في عيني الرب الاله فتجلـّى له قائلاً: اصنع لنفسك فلكاً لأني آتٍ بطوفان الماء على الأرض لأهلك كل جسد فيه، خذ معك من البهائم والطير من كلٍ زوجين، وارتقب فورة الماء..» وتمضي القصة إلى نهايتها كما هي معروفة، وفيها اضافة نجدها في كتب قصص الأنبياء المتداولة الآن، تقول هذه الإضافة: «ولكن ليتثبت كسيثوروس مما إذا كان الطوفان قد انتهى أطلق طيراً، فعاد إليه متبلاً، فعاود إطلاقه حتى عاد إليه للمرة الثالثة وقدماه ملوثتان بطين، وحيث ذلك خرج ومن معه على جبل..». وتواصل القصة أخبار بابل بعد الطوفان.. وتتضمن الاعتقاد بأن «كسيثوروس قد رفعه الله جسداً إلى السماء».
ـ وفي عقائد البابليين نجد الاعتقاد بالاسراء إلى السماء: فإن «إيتانا» قد رقى إلى السماء، وأمام العرش الالهي هوى ساجداً.. وأن «آدابا» أسرى إلى السماء، وبعد اختبار بتقديم وعائين له مُسِحَ بالزيت وخُلعت عليه بُردَة.
نكتفي بهذا القدر من بين تفاصيل كثيرة متشعبة، كانت تمثل ديانة أجيال قديمة، أصبحت الآن في عداد الأساطير.
الحكمة في بلاد الرافيدن
أكثر ما تتجلى الحكمة في الكتابات الدينية، التي تتحدث عن العقيدة في الاله والتكوين والارباب، كما تتجلى في النصائح الأخلاقية (الحكم)، وفي الاشعار أيضاً.. في كل ذلك ترك العراقيون القدامى تراثاً غنياً. فعن أقدم الحضارات (سومر) كشف الآثاريون أكثير من عشرين موضوعاً حكمياً مفصلاً، يطلق عليه الآن أسطورة. لأنها تتحدث عن ماوراء الطبيعة، منها:
ـ اسطورة أنليل وننليل.
ـ أنليل وخلق الفأس.
ـ أنكي وتنظيم الكون.
ـ أنكي وأريدو والرحلة إلى نفر (المدينة السومرية).
ـ أنانا وأنكي.
ـ أنانا والبستاني.
ـ وأساطير عديدة عن دموزي (تموز) والمعتقدات الخاصة به.
وعن العهد البابلي كشفت أساطير أكثر عدداً، منها:
ـ أسطورة الخليقة أو قصة التكوين.
ـ أسطورة أنزو وسرقة ألواح القدر.
ـ أسطورة نركال واير شكيمال.
ـ مدونات الصلوات والاتبهالات والتراتيل الدينية.
ـ ومن أدب الحكمة كشفت قصائد وحواريات عديدة جداً، يضاهي بعضها حكايات (كليلة ودمنة) التي جاءت بعدها بقرون عديدة. ومنها:
ـ قصيدة لأمتدحنّ رب الحكمة.
ـ حوار رجل معذب وصديقه الحكيم.. تتحدث عن العدل الالهي.
-حوار بين عبد وسيده..في اسلوب نادر يتعمد اظهار خصائص الشيئ وضده بعبارة حكمية بليغة , قد تبدو ساخرة احيانا..
ـ حوارات عديدة ومناظرات في مزايا الطبيعة والمخلوقات، كمناظرة الصيف والشتاء، ومناظرة الراعي والفلاح، ومناظرة الطير والسمكة، ومناظرة الفضة والنحاس، ومناظرة النخلة والأثل، ومناظرة الثور والحصان، ومناظرة الذئب والكلب والثعلب، وقصيدة على لسان قرد إلى أمه.. وقصة ساخرة (قصة جميل ننورتا) تضاهي حكايات ألف ليلة وليلة.
وفي خاتمة القصة البابلية الساخرة (فقير من نفر) نقرأ ما يكشف عن كثير من الدلالات، إذ يكتب كاتبها: «كتب ودقق على وفق النسخة الأصلية (نابو ـ رختو ـ آصر) الناسخ المساعد عضو مجمع نابو ـ أفا ـ أدن، أمين القصر لمطالعة قدري نركال.. كل من يأخذ هذا الرقيم عسى أيا إله الحكمة أن يأخذه بأمر من نابو إله الخط، الذي يسكن معبد أي ـ زيدا، .. في شهر آذار، اليوم 21، سنة خاناني» وهذه السنة تقابل سنة 701 ق.م. في مدة حكم سنحاريب الاشوري.
فهذا الكاتب الآشوري (نابو ـ رختو ـ آصر) يستنسخ هذه القصة البابلية من النسخة الاصلية، في مجمع خاص بهذه الأعمال العلمية.. ثم نلاحظ تقديس الحكمة والكتابة، فللحكمة إله، وللخط إله.. ثم لنقف عند معبد (أي ـ زيدا) لنرى جذور الديانة الأيزيدية القائمة الآن في تلك البقاع نفسها.. وأخيراً نقف عند التاريخ (21 آذار) هذا اليوم الذي لازال سكان تلك البقاع يحتفلون به، كما يقدسه الزردشتية.
ـ كما قام البابليون بإعادة نسخ كلما تركه السومريون، قام الآشوريون بجمع ونسخ كل ما عثروا عليه في مملكة بابل.. ما ساعد على حفظ هذا التراث الكبير الذي عثر عليه في مكتبة آشور بانيبال، إضافة إلى ما عثر عليه في أماكن كتابته الأولى، في أرض سومر وبابل.
يقول الدكتور طه باقر: «تحتفظ متاحف العالم بمجاميع هائلة من الالواح المسمارية، ربما يناهز عددها المليون بين رُقـُم، وكسرة، وحجر مكتوب، وتتعلق بسكان وادي الرافدين عبر العصور».
نصوص مختارة
1- منذ العهد السومري كانت الحكمة تتابع شؤون المجتمع والدولة، الاخلاق والسياسة، فأثبتوا نصوصاً في غاية الاهمية، تدين بها الأمم كلها حتى الآن، وإلى آخر الزمان، لأنها حصيلة تجربة حياتية وخبرة اجتماعية وسياسية، إضافة إلى العلوم الدينية.. فلنقرأ هذه النصوص الدينية والتربوية:
ـ «اعبد الهك كل يوم.. صلّ وابتهل واسجد له كل يوم».
ـ « الصلاة تكفـّر عن الذنوب».
ـ «أطع كلام أمك كأنه أمر إلهي».
ـ «الذي يقسم يميناً كاذباً فهو منافق».
2- ولنقرأ في السياسة المدنية أقدم نص عرفته البشرية في المبدأ القائل بأن(العدل هو أساس استقامة الدولة وأن الظلم أساس خرابها).. يقول النص السومري:
ـ «شعب بدون ملك، ماشية بدون راع».
ـ «إذا لم يرع الملك إقامة العدل، فستعم الفوضى شعبه، وتخرب بلاده».
ـ «إذا لم يطبق الملك العدالة في أرضه فإن الإله آيا سيد المصائر والأقدار سيغيّّر مصيره».
3ـ لوكال ملك الوركاء كتب يقول وهو يدعو لنفسه: «.. وعسى أن تنام البلاد تحت حكمي بسلام في المروج، وعسى أن يزدهر البشر كله كما تزدهر النباتات والحشائش..».
4ـ سرجون الأكدي، يكتب قصته، فيقول: «أنا سرجون الملك العظيم، ملك بلاد أكد، كانت أمي كاهنة عظمى، وأنا لا أعرف أبي الذي كان متجولاً، وكان شقيق أبي يحب التلال، ومدينتي أزوبيرانا Azupirana التي تقع على ضفاف الفرات. لقد حملتني أمي وولدتني سراً ووضعتني في سلة من البردي ختمت غطاءها بالقير ومن ثم رمتني في النهر الذي لم يغمرني، فحملني النهر وأخذني الغراف آكي بستانياً عنده، ومنحتني عشتار حبها فاضطلعت بمهمة الملوكية.. لقد سيست وحكمت ذوى الرؤوس السود، وقهرت الجبال الشاهقة بفؤوس قاطعة من البرونز، تسلقت القمم العالية وعبرت القمم السفلى، وطوفت حول بلدان البحر ثلاث مرات...
5ـ ملحمة جلجامش ـ أروع النتاجات الادبية وأقدمها ـ كتبها الملك جلجامش حدود سنة 2700ق.م.، يتحدث فيها عن نفسه مباشرة واصفاً حكم الملوك المستبدين الذين يحتكرون الحرية لأنفسهم ويستعبدون الناس، ينعمون بالرفاء والثروة والنساء، وينتزعون كل شيء من جهد الناس ولا يمنحونهم إلا الشقاء... كيف ينظر الاله إلى ملك كهذا، بعد أن تتضجر منه الناس وتدعوا الاله أن يخلق له نداً ينافسه حتى تستريح المملكة (أوروك).
فيخلق الاله من الصلصال شخص (أنكيدوا) الذي يمثل الإنسان الفطري أولاً ويحمل صورة الوعي الجمعي بضرورة تغيير النظام الاستبدادي وتقييد حرية الملك.. يعيش أنكيدوا الحياة الفطرية البدائية، ثم تستهويه كاهنة المعبد فيعيش في المعبد يتعلم الحكمة، ثم تبعثه الكاهنة إلى جلجامش ليحاوره وفق المبادئ الأخلاقية الرفيعة ومبادئ العدالة.. أنكيدوا يمثل الظمير الذي يستيقض في روح الملك المستبد جلجامش، فيقنعه بأن الحرية حق للجميع وليس للملك وحده، وأن الحرية لا معنى لها ولا وجود لها بغير العدل.. وأن الناس سواسية ليس في الحقوق فقط بل في المشاعر والأحاسيس أيضاً».
تنتهي الحوارية بين جلجامش وأنكيدوا، إلى وحدة جدلية تؤلف بين القيم الأخلاقية التي يمثلها إنسان الطبيعة أنكيدوا، وبين أسلوب الحياة الحضارية التي يمثلها جلجامش.. فتنتهي إلى انتفاء الفساد الأخلاقي والسياسي في شخصية الملك المستبد، وانتفاء البعد الطبيعي البدائي في شخصية إنسان الطبيعة، فتنتج شخصية متكاملة تتمتع بالقيم الأخلاقية السليمة وتتجه في الوقت نفسه إلى تحقيق الذات بواسطة الفعل الحضاري.
6ـ نصوص من حكم أحيقار الحكيم، في الدولة الآشورية:
كتب أحيقار هذه الحكم، الوصايا، لابن اخته (نادن) مخاطباً اياه (يا بني) ..ننتخب منها قطعاً معدودة، وهي طويلة جداً:
ـ «يا بني، لا تتفوه بكل ما يطرق سمعك، ولا تحاول إشاعة كل ما يقع في نظرك».
ـ «يا بني، لا تكن عجولاً كشجرة اللوز، فإنها تزهو قبل جميع الأشجار وتـُطعم بعدها جميعاً، بل كن كشجرة التوت هادئاً ومتيناً، فإنها تورق آخر الأشجار، وتُطعم قبلها جميعاً».
ـ «يا بني، طأطئ عينيك، واخفض صوتك، وانظر باحتشام، لأنه لو أمكن بناء البيت بالصوت العالي لبنى الحمار بيتين في يوم واحد..».
ـ «يا بني، إنه لأفضل للمرء أن ينقل الحجارة مع رجل حكيم، من أن يشرب الخمر مع جاهل».
ـ «يا بني، إنك لن تضل إذا عاشرت حكيماً، ومع الضال لن تتعلم الحكمة».
ـ «يا بني، طالما أنك منتعل، دُس الأشواك، ومهّد الطريق لأبنائك وأحفادك».
ـ «يا بني، مع عديم الحياء حتى الخبز لا تأكل».
ـ «يا بني، إني حملت الحديد ونقلت الحجارة، فلم أجل أثقل من رجل يسكن بيت حميه».
ـ «يا بني، إني حملت الملح ونقلت الرصاص، فلم أجل أثقل من الدَين، فليفِ الإنسان ولا يقترض».
ـ «أعمى العينين أفضل من أعمى القلب، لأن أعمى العينين يتعلم طريقاً سريعاً، أما أعمى القلب فإنه يحيد عن الطريق السوى ويتيه في الضلال..».
ـ «يا بني، الزبد الذي في يدك خير من الدهن الذي في قدر الآخرين، ونعجة قريبة خير من بقرة بعيدة، وعصفور في يدك خير من ألف عصفور طائر، والفقر الذي يجمع خير من الغنى الذي يبدد، ورداء صوف ترتديه خير من خز وارجوان يرتديه الآخرون».
ـ «كل من لا يقضي قضاء عادلاً يغضب الإله».
ـ « لا تقاوم من كان في أوج عظمته، ولا تناحر النهر في طغياته».
ـ « عين الناس هي كينبوع ماء، ولا تشبع من الأموال حتى تمتلئ بالتراب».
ـ « بهيّ الثياب مقبول الكلام، وحقيرها مرفوضوهُ».
ـ « من كان ملآن اليد يدعى حكيماً، ومحترماً، ومن كان فارغها يدعى مسيئاً ووضيعاً».
هذه جملة من وصايا أحيقار الحكيم، وقد ترك أحيقار غير هذه الوصايا قصة حياته، أو قل مذكراته، المشحونة بالأدب والحكمة والاثارة.
7ـ وتذكر الألواح البابلية القديمة أن إلى جانب كل ملك كان هناك حكيما، يلقي الحكمة، يستشيره الملك في شؤون المملكة، وتذكر الألواح أسماء 16 حكيماً، أربعة منهم في عهد ما قبل الطوفان، وأربعة في زمن الطوفان، وثمانية بعد الطوفان.
8ـ وفي العهد السومري، كان للحكمة والحكماء منزلة في العقيدة الدينية، ففي مدونة (آنكي وتنظيم الكون) تقول العقيدة السومرية أن الاله يرسل مخلوقات من مياه العمق لنشر الخير والمعرفة وفنون الحضارة.. وقد أطلقوا على هؤلاء اصطلاح (الحكماء السبعة) فهم سبعة حكماء اختارتهم الآلهة لهذه المهمات.
قبل مفارقة هذه العهود لابد من ذكر مملكة العرب الاخيرة (بعد مملكتي الحضر، وميسان) قبل الاسلام في العراق .. مملكة المناذرة .. التي يدين لها العرب والفرس والترك بابتكارها حروف الهجاء(أ ب ج د ...) التي هي احرف العربية .. واستعارها الفرس في وقت مبكر اذ كانوا انذاك في العراق، غير ان للفرس اربعة احرف اضافوها الى الاحرف العربية الثمان والعشرين وهي (پ چ ژ گ)..اما الترك فلم يفارقوا الاحرف العربية حتى عهد اتاتورك في العشرينيات من القرن الماضي حيث اعتمد الاحرف اللاتينية بديلا عن العربية في خدمة مشروعه في ارساء جذور العلمانية في تركيا..
وختاماً: لا أجد لهذه القطيعة التي أحدثها العراقيون خصوصاً مع تاريخهم القديم، مبرراً، أو معنى.. وما يثار عند الإسلاميين خاصة من ذريعة كون تلك الحضارات حضارات «جاهلية» لا صلة لها بالإٍسلام، ليست بالذريعة المحكمة، إذ كان علماء الإٍسلام في كل أصناف العلوم، وانطلاقاً من العراق بالذات، عاصمة العلم آنذاك، قد تلقوا كل ما تناولته أيديهم من تراث اليونان والهند وفارس باحترام كبير، ونقلوا منه الى العربية الشيء الكثير، دون أن يكون لمثل هذه الذريعة محلاً بينهم، كل ما في الامر أن تراث العراق القديم كان مكتوباً بلغة لم يتوصل العلماء المسلمين الى حل رموزها واكتشاف حروفها، كما أنها لم تكن متاحة للتداول حيث لم يأت بعد عصر التنقيب عن الاثار.. فلو كان ذلك قد تيسر لهم لما أعرضوا عنها، بل لوجدناها مترجمة الى العربية منذ العصر العباسي الأول، ولكان الكثير منها محل دراسة وتأمل واستشهاد.
اليوم وقد أصبح هذا كله ميسوراً، فليس ثمة مبرر لتأخيره وراء غيره من تراث الاقدمين.. نحن العراقيون خاصة بحاجة الى إحياء ما يستحق الاحياء من هذا التراث، لانه واحد من عناصر تكوين الهوية الوطنية والاعتزاز بالوطن واذكاء روح المواطنة.. وهذا شأن سائر الامم والشعوب المعاصرة